سورة الحج - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عطف المضارع على الماضي؛ لأن المراد بالمضارع ما مضى من الصدّ، ومثل هذا قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [محمد: 1]، أو المراد بالصدّ ها هنا الاستمرار لا مجرّد الاستقبال، فصح بذلك عطفه على الماضي، ويجوز أن تكون الواو في: {ويصدّون} واو الحال، أي كفروا والحال أنهم يصدون. وقيل: الواو زائدة والمضارع خبر إن والأولى أن يقدر خبر إن بعد قوله: {والباد} وذلك نحو خسروا أو هلكوا.
وقال الزجاج: إن الخبر {نذقه من عذاب أليم} وردّ بأنه لو كان خبراً لإن لم يجزم وأيضاً لو كان خبراً لإن لبقي الشرط وهو {وَمَن يُرِدِ} بغير جواب، فالأولى أنه محذوف كما ذكرنا. والمراد بالصدّ: المنع وبسبيل الله: دينه، أي: يمنعون من أراد الدخول في دين الله و{المسجد الحرام}، معطوف على {سبيل الله} قيل: المراد به: المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني. وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية. وقيل: المراد به: مكة بدليل قوله: {الذي جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به مستوياً فيه العاكف وهو المقيم فيه الملازم له، والباد أي الواصل من البادية، والمراد به: الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم. وانتصاب {سواء} على أنه المفعول الثاني لجعلناه، وهو بمعنى مستوياً، و{العاكف} مرتفع به، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادّين عنه، ويحتمل أن يكون انتصاب {سَوَآء} على الحال. وهذا على قراءة النصب، وبها قرأ حفص عن عاصم، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الجمهور برفع {سواء} على أنه مبتدأ وخبره {العاكف} أو على أنه خبر مقدّم، والمبتدأ {العاكف} أي العاكف فيه والبادي سواء، وقرئ بنصب {سواء} وجرّ {العاكف} على أنه صفة للناس، أي جعلناه للناس، العاكف والبادي سواء، وأثبت الياء في البادي ابن كثير وصلا ووقفا، وحذفها أبو عمرو في الوقف، وحذفها نافع في الوصل والوقف. قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه.
واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ.
وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى ربّ المنزل أن يؤويه شاء أم أبى.
وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام، ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها. والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأصل الأوّل: ما في هذه الآية: هل المراد بالمسجد الحرام المسجد نفسه، أو جميع الحرم، أو مكة على الخصوص؟ والثاني: هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة هل أقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم في يد أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟ وقد أوضحنا هذا في شرحنا على المنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة.
{وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مفعول يرد محذوف لقصد التعميم، والتقدير: ومن يرد فيه مراداً، أيّ مراد بإلحاد، أي بعدول عن القصد. والإلحاد في اللغة: الميل إلا أنه سبحانه بيّن هنا أنه الميل بظلم.
وقد اختلف في هذا الظلم ماذا هو؟ فقيل: هو الشرك. وقيل: الشرك والقتل، وقيل: صيد حيواناته وقطع أشجاره، وقيل: هو الحلف فيه بالأَيمان الفاجرة، وقيل: المراد: المعاصي فيه على العموم. وقيل: المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان.
وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا: لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذّبه الله. والحاصل: أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرّد الإرادة للظلم، فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها، إلا أن يقال: إن الإرادة فيها زيادة على مجرّد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا وتقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جدّاً، ومثل هذه الآية حديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» فدخل النار هنا بسبب مجرّد حرصه على قتل صاحبه.
وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة، والباء في قوله: {بِإِلْحَادٍ} إن كان مفعول {يرد} محذوفاً كما ذكرنا فليست بزائدة. وقيل: إنها زائدة هنا كقول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفَلَج *** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي: نرجو الفرج، ومثله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى *** بما لاقت لبون بني زياد
أي: ما لاقت، ومن القائلين بأنها زائدة الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم.
وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى: بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف، ويجوز أن يكون التقدير: ومن يرد الناس بإلحاد. وقيل: إن {يرد} مضمن معنى: يهمّ، والمعنى: ومن يهمّ فيه بإلحاد. وأما الباء في قوله: {بظلم} فهي للسببية، والمعنى: ومن يرد فيه بإلحاد بسبب الظلم، ويجوز أن يكون {بظلم} بدلاً من {بإلحاد} بإعادة الجارّ، ويجوز أن يكونا حالين مترادفين.
{وإذ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} أي: واذكر وقت ذلك، يقال: بوّأته منزلاً وبوّأت له، كما يقال: مكنتك ومكنت لك.
قال الزجاج: معناه: جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم، ومعنى {بوّأنا}: بيّنا له مكان البيت، ومثله قول الشاعر:
كم من أخ لي ماجد *** بوّأته بيديّ لحداً
وقال الفراء: إن اللام زائدة ومكان ظرف، أي أنزلناه فيه {أن لا تشرك بِي شَيْئاً} قيل: إن هذه هي مفسرة لبوّأنا، لتضمنه معنى تعبدنا؛ لأن التبوئة هي للعبادة.
وقال أبو حاتم: هي مصدرية، أي لأن لا تشرك بي. وقيل: هي المخففة من الثقيلة، وقيل: هي زائدة. وقيل: معنى الآية: وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري. قال المبرد: كأنه قيل له: وحدني في هذا البيت، لأن معنى لا تشرك: بي وحدني {وَطَهّرْ بَيْتِيَ} من الشرك وعبادة الأوثان. وفي الآية طعن على ما أشرك من قطان البيت أي: هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب بقوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} لمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف جدّاً. ومعنى {وَطَهّرْ بَيْتِىَ}: تطهيره من الكفر والأوثان والدماء وسائر النجاسات، وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت، وقد مرّ في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى. والمراد بالقائمين هنا هم: المصلون وذكر {الركع السجود} بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا في البيت فالطواف عنده والصلاة إليه.
{وَأَذّن فِي الناس بالحج} قرأ الحسن وابن محيصن: {وآذن} بتخفيف الذال والمدّ. وقرأ الباقون بتشديد الذال، والأذان الإعلام، وقد تقدّم في براءة.
قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت جاءه جبريل فأمره أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: يا ربّ، من يبلغ صوتي؟ فقال الله سبحانه: أذن وعليّ البلاغ، فعلا المقام فأشرف به حتى صار كأعلى الجبال، فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللّهم لبيك. وقيل: إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أعلمهم يا محمد بوجوب الحجّ عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: {والركع السجود} وقيل: إن خطابه انقضى عند قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} وأن قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى} وما بعده خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الجمهور {بالحجّ} بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها {يَأْتُوكَ رِجَالاً} هذا جواب الأمر، وعده الله إجابة الناس له إلى حجّ البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى {رجالاً}: مشاة، جمع راجل.
وقيل: جمع رجل. وقرأ ابن أبي إسحاق {رجالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم. وقرأ مجاهد: {رجالى} على وزن فعالى مثل كسالى. وقدّم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، وقال: {يأتوك} وإن كانوا يأتون البيت، لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم، لأنه أجاب نداءه {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} عطف على {رجالا} أي وركباناً على كل بعير. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر، يقال: ضمر يضمر ضموراً، ووصف الضامر بقوله: {يَأْتِينَ} باعتبار المعنى؛ لأن ضامر في معنى ضوامر، وقرأ أصحاب ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك {يأتون} على أنه صفة ل {رجالاً}. والفجّ: الطريق الواسع، الجمع فجاج، والعميق: البعيد. واللام في {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ} متعلقة بقوله: {ريأتوك} وقيل: بقوله: {وأذن} والشهود: الحضور، والمنافع هي تعمّ منافع الدنيا والآخرة. وقيل: المراد بها: المناسك. وقيل: المغفرة؛ وقيل: التجارة كما في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} [البقرة: 198]. {وَيَذْكُرُواْ اسم الله فِي أَيَّامٍ معلومات} أي يذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله. وقيل: إن هذا الذكر كناية عن الذبح؛ لأنه لا ينفك عنه. والأيام المعلومات هي: أيام النحر، كما يفيد ذلك قوله: {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام}. وقيل: عشر ذي الحجة.
وقد تقدّم الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات في البقرة فلا نعيده، والكلام في وقت ذبح الأضحية معروف في كتب الفقه وشروح الحديث. ومعنى: {على ما رزقهم}: على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى {فَكُلُواْ مِنْهَا} الأمر هنا للندب عند الجمهور، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب {وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير} البائس: ذو البؤس وهو شدة الفقر، فذكر الفقير بعده؛ لمزيد الإيضاح. والأمر هنا للوجوب. وقيل: للندب.
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} المراد بالقضاء هنا هو: التأدية، أي ليؤدوا إزالة وسخهم، لأن التفث هو: الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار، وقد أجمع المفسرون، كما حكاه النيسابوري، على هذا. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث.
وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشرع ما يحتجّ به في معنى التفث.
وقال المبرّد: أصل التفث في اللغة: كل قاذورة تلحق الإنسان. وقيل: قضاؤه ادّهانه لأن الحاج مغبرّ شعث لم يدهن ولم يستحد، فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره ولبس ثيابه، فهذا هو قضاء التفث. قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} أي: ما ينذرون به من البرّ في حجهم، والأمر للوجوب. وقيل: المراد بالنذور هنا أعمال الحج {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} هذا الطواف هو طواف الإفاضة.
قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأوّلين، والعتيق: القديم كما يفيده قوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار. وقيل: لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: لأنه أعتق من غرق الطوفان. وقيل: العتيق الكريم.
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {والمسجد الحرام} قال: الحرم كله، وهو المسجد الحرام {سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} قال: خلق الله فيه سواء.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم في منازل مكة سواء، فينبغي لأهل مكة أن يوسعوا لهم حتى يقضوا مناسكهم.
وقال البادي وأهل مكة سواء، يعني: في المنزل والحرم.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: من أخذ من أجور بيوت مكة إنما يأكل في بطونه ناراً.
وأخرج ابن سعد عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً قال له عند المروة: يا أمير المؤمنين، أقطعني مكاناً لي ولعقبي، فأعرض عنه عمر وقال: هو حرم الله، سواء العاكف فيه والباد.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: كان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاجّ في عرصات الدور.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله: {سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} قال: «سواء المقيم والذي يرحل».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن ماجه عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاح سكن ومن استغنى أسكن. رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حفرة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة فذكره.
وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً: «من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً».
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن راهويه وأحمد وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود رفعه في قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: «لو أن رجلاً همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً» قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا صمم شعبة على وقفه.
وأخرج سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال: من همّ بخطيئة فلم يعملها في سوى البيت، لم تكتب عليه حتى يعملها، ومن همّ بخطيئة في البيت؛ لم يمته الله من الدنيا حتى يذيقه من عذاب أليم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري، ثم ارتدّ عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني بميل عن الإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قال: بشرك.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه».
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في تاريخه، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: بيع الطعام بمكة إلحاد.
وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «احتكار الطعام بمكة إلحاد».
وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه عن عليّ قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر. فلما قدم مكة رأى على رابية في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابْنِ على ظلي أو على قدري ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر، وذلك حين يقول الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء {والقائمين} قال: المصلين عنده.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة معناه.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: ربّ، قد فرغت، فقال: {أَذِنَ فِي الناس بالحج} قال: ربّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعليّ البلاغ، قال: ربّ كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق. فسمعه من في السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون. وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ} قال: أسواقاً كانت لهم، ما ذكر الله منافع إلا الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات.
وأخرج أبو بكر المروزي في كتاب العيدين عنه أيضاً قال: الأيام المعلومات: أيام العشر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أيام التشريق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضاً في الأيام المعلومات قال: قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية ويوم عرفة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: البائس: الزمن.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال: التفث: المناسك كلها.
وأخرج هؤلاء عن ابن عباس نحوه.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التفث حلق الرأس والأخذ من العارضين ونتف الإبط وحلق العانة والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار وقصّ الأظفار وقصّ الشارب والذبح.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} هو طواف الزيارة يوم النحر، وورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً. وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.


محل {ذلك} الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره محذوف، أو في محل نصب بفعل محذوف، أي افعلوا ذلك. والمشار إليه هو ما سبق من أعمال الحجّ، وهذا وأمثاله يطلق للفصل بين الكلامين أو بين طرفي كلام واحد، والحرمات جمع حرمة. قال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه، وهي في هذه الآية ما نهي عنها، ومنع من الوقوع فيها. والظاهر من الآية عموم كل حرمة في الحج وغيره كما يفيده اللفظ وإن كان السبب خاصاً، وتعظيمها ترك ملابستها {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} أي فالتعظيم خير له {عِندَ رَبّهِ} يعني: في الآخرة من التهاون بشيء منها. وقيل: إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد: أن ذلك التعظيم خير ينتفع به، فهي عدة بخير {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي في الكتاب العزيز من المحرّمات، وهي الميتة وما ذكر معها في سورة المائدة. وقيل في قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1].
{فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} الرجس: القذر، والوثن: التمثال، وأصله من وثن الشيء، أي أقام في مقامه، وسمي الصليب وثناً، لأنه ينصب ويركز في مقامه، فلا يبرح عنه. والمراد: اجتناب عبادة الأوثان، وسماها رجساً؛ لأنها سبب الرجس وهو العذاب. وقيل: جعلها سبحانه رجساً حكماً، والرجس: النجس، وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها ولكنها وصف شرعي، فلا تزول إلا بالإيمان كما أنها لا تزول النجاسة الحسية إلا بالماء. قال الزجاج: {من} هنا لتخليص جنس من أجناس، أي فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن {واجتنبوا قَوْلَ الزور} الذي هو الباطل، وسمي زوراً؛ لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17]. وقولهم: مدينة زوراء، أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم، وأعظمه الشرك بالله بأيّ لفظ كان.
وقال الزجاج المراد بقول الزور ها هنا: تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم: {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116]. وقيل: المراد به: شهادة الزور.
وانتصاب {حُنَفَاء} على الحال، أي مستقيمين على الحق، أو مائلين إلى الحق. ولفظ حنفاء من الأضداد يقع على الاستقامة، ويقع على الميل. وقيل: معناه: حجاجاً، ولا وجه لهذا. {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} هو حال كالأوّل، أي غير مشركين به شيئاً من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم، وجملة: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب. ومعنى خرّ من السماء: سقط إلى الأرض، أي انحط من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر {فَتَخْطَفُهُ الطير}، يقال: خطفه: إذا سلبه، ومنه قوله: {يَخْطَفُ أبصارهم} [البقرة 20]. أي تخطف لحمه وتقطعه بمخالبها. قرأ أبو جعفر ونافع بتشديد الطاء وفتح الخاء، وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما {أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح} أي تقذفه وترمي به {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي بعيد، يقال: سحق يسحق سحقاً فهو سحيق: إذا بعد قال الزجاج: أعلم الله أن بعد من أشرك به من الحقّ، كبعد ما خرّ من السماء، فتذهب به الطير أو هوت به الريح في مكان بعيد.
{ذلك وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} الكلام في هذه الإشارة قد تقدّم قريباً، والشعائر: جمع الشعيرة، وهي كل شيء فيه لله تعالى شعار، ومنه شعار القوم في الحرب، وهو علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البدن، وهو الطعن في جانبها الأيمن، فشعائر الله: أعلام دينه، وتدخل الهدايا في الحجّ دخولاً أوّلياً، والضمير في قوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} راجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف، أي فإن تعظيمها من تقوى القلوب أي: من أفعال القلوب التي هي من التقوى، فإن هذا التعظيم ناشئ من التقوى. {لَكُمْ فِيهَا منافع} أي في الشعائر على العموم، أو على الخصوص، وهي البدن كما يدلّ عليه السياق. ومن منافعها: الركوب والدرّ والنسل والصوف وغير ذلك {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو وقت نحرها {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} أي حيث يحلّ نحرها، والمعنى: أنها تنتهي إلى البيت وما يليه من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرّة إلى وقت نحرها، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية. وقيل: إن محلها ها هنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى: أن شعائر الحجّ كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي تنتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه.
{وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} المنسك ها هنا المصدر من نسك ينسك: إذا ذبح القربان، والذبيحة: نسيكة، وجمعها نسك.
وقال الأزهري: إن المراد بالمنسك في الآية: موضع النحر، ويقال: منسك بكسر السين وفتحها لغتان، قرأ بالكسر الكوفيون إلا عاصماً وقرأ الباقون بالفتح.
وقال الفرّاء: المنسك في كلام العرب: الموضع المعتاد في خير أو شرّ، وقال ابن عرفة: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي مذهباً من طاعة الله.
وروي عن الفراء أن المنسك: العيد. وقيل: الحجّ، والأوّل أولى لقوله: {لّيَذْكُرُواْ اسم الله} إلى آخره، والأمة: الجماعة المجتمعة على مذهب واحد، والمعنى: وجعلنا لكل أهل دين من الأديان ذبحاً يذبحونه، ودما يريقونه، أو متعبداً أو طاعة أو عيداً أو حجاً يحجونه، ليذكروا اسم الله وحده، ويجعلوا نسكهم خاصاً به {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} أي على ذبح ما رزقهم منها. وفيه إشارة إلى أن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها، وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه.
ثم أخبرهم سبحانه بتفرّده بالإلهية وأنه لا شريك له، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام له، والانقياد لطاعته وعبادته، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر، والفاء هنا كالفاء التي قبلها، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر {المخبتين} من عباده، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين، وهو مأخوذ من الخبت، وهو المنخفض من الأرض، والمعنى: بشرهم يا محمد بما أعدّ الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه. وقيل: إن المخبتين هم الذين لا يظلمون غيرهم، وإذا ظلمهم غيرهم لم ينتصروا.
ثم وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي خافت وحذرت مخالفته، وحصول الوجل منهم عند الذكر له سبحانه دليل على كمال يقينهم وقوّة إيمانهم، ووصفهم بالصبر {على مَا أَصَابَهُمْ} من البلايا والمحن في طاعة الله ثم وصفهم بإقامة {الصلاة} أي الإتيان بها في أوقاتها على وجه الكمال. قرأ الجمهور: {والمقيمي الصلاة} بالجرّ على ما هو الظاهر، وقرأ أبو عَمْرو بالنصب على توهم بقاء النون، وأنشد سيبويه على ذلك قول الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة ***
البيت بنصب عورة، وقيل: لم يقرأ بهذه القراءة أبو عمرو، وقرأ ابن محيصن: {والمقيمين} بإثبات النون على الأصل، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود، ثم وصفهم سبحانه بقوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أي يتصدّقون به وينفقونه في وجوه البرّ، ويضعونه في مواضع الخير، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته زَادَتْهُمْ إيمانا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {حرمات الله} قال: الحرمة مكة والحجّ والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} يقول: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان {واجتنبوا قَوْلَ الزور} يعني: الافتراء على الله والتكذيب به.
وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور شركاً بالله» ثلاثاً، ثم قرأ: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} قال أحمد: غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد.
وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعاً من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرجه أحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من حديث خريم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً، فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»، فما زال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} قال: حجاجاً لله غير مشركين به، وذلك أن الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام، قال الله للمسلمين: حجوا الآن غير مشركين بالله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصدّيق نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} قال: البدن.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وفي قوله: {لَكُمْ فِيهَا منافع إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قال: إلى أن تسمى بدناً.
وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه، وفيه قال: ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى، في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها إلى أن تسمى هدياً، فإذا سميت هدياً ذهبت المنافع {ثُمَّ مَحِلُّهَا} يقول: حين تسمى {إلى البيت العتيق}.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} قال: عيداً.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: إهراق الدماء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: ذبحاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها.
وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَبَشّرِ المخبتين} قال: المطمئنين.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن أوس قال: المخبتون في الآية الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا.


قرأ ابن أبي إسحاق: {والبدن} بضم الباء والدال، وقرأ الباقون بإسكان الدال وهما لغتان، وهذا الاسم خاص بالإبل. وسميت بدنة؛ لأنها تبدن، والبدانة: السمن.
وقال أبو حنيفة ومالك: إنه يطلق على غير الإبل، والأوّل أولى لما سيأتي من الأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل، ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل.
وقال ابن كثير في تفسيره: واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح في الحديث {جعلناها لَكُمْ} وهي ما تقدّم بيانه قريباً {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أي منافع دينية ودنيوية كما تقدّم {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} أي على نحرها ومعنى {صَوَافَّ} أنها قائمة قد صفت قوائمها، لأنها تنحر قائمة معقولة. وأصل هذا الوصف في الخيل يقال: صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة. وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري: {صوافي} أي خوالص لله لا تشركون به في التسمية على نحرها أحداً، وواحد صوافّ صافة، وهي قراءة الجمهور. وواحد صوافي صافية، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر ومحمد بن علي: {صوافن} بالنون جمع صافنة. والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى: {الصافنات الجياد} [ص: 31]، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه *** مقلدة أعنتها صفونا
وقال الآخر:
ألف الصفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيرا
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} الوجوب: السقوط، أي فإذا سقطت بعد نحرها، وذلك عند خروج روحها {فَكُلُواْ مِنْهَا} ذهب الجمهور أن هذا الأمر للندب {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} هذا الأمر قيل: هو للندب كالأوّل، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج.
وقال الشافعي وجماعة: هو للوجوب.
واختلف في القانع من هو؟ فقيل: هو السائل، يقال: قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل، ومنه قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني *** مفاقره أعفّ من القنوع
أي السؤال، وقيل: هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة، ذكر معناه الخليل. قال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة. وبالأوّل قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن، وروي عن ابن عباس. وبالثاني قال عكرمة وقتادة. وأما المعترّ، فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن: أنه الذي يتعرّض من غير سؤال. وقيل: هو الذي يعتريك ويسألك.
وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير، والمعترّ: الزائر.
وروي عن ابن عباس: أن كليهما الذي لا يسأل، ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعترّ الذي يتعرّض لك ولا يسألك.
وقرأ الحسن: {والمعترّى} ومعناه كمعنى المعترّ ومنه قول زهير:
على مكثريهم رزق من يعتريهم *** وعند المقلين السماحة والبذل
يقال: اعترّه واعتراه وعرّه وعراه: إذا تعرّض لما عنده أو طلبه، ذكره النحاس {كذلك سخرناها لَكُمْ} أي مثل ذلك التسخير البديع سخرناها لكم، فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها. وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهرها والحلب لها ونحو ذلك {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم.
{لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} أي لن يصعد إليه ولا يبلغ رضاه ولا يقع موقع القبول منه لحوم هذه الإبل التي تتصدّقون بها ولا دماؤها التي تنصب عند نحرها من حيث إنها لحوم ودماء {ولكن يَنَالُهُ} أي يبلغ إليه تقوى قلوبكم، ويصل إليه إخلاصكم له وإرادتكم بذلك وجهه، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه. وقيل: المراد: أصحاب اللحوم والدماء، أي: لن يرضى المضحون والمتقرّبون إلى ربهم باللحوم والدماء، ولكن بالتقوى. قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به، وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال: قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطبتهم {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} كرّر هذا للتذكير، ومعنى {لِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} هو قول الناحر: الله أكبر عند النحر، فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها. وذكر هنا التكبير. للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير. وقيل: المراد بالتكبير: وصفه سبحانه بما يدلّ على الكبرياء، ومعنى {على مَا هَدَاكُمْ}: على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرّب بها، و{ما} مصدرية، أو موصولة {وَبَشّرِ المحسنين} قيل: المراد بهم: المخلصون. وقيل: الموحدون. والظاهر أن المراد بهم: كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبد الله بن عمر قال: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: البدن ذات الجوف.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: ليس البدن إلا من الإبل.
وأخرجوا عن الحكم نحوه.
وأخرجوا عن عطاء نحو ما قال ابن عمر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن، سعيد بن المسيب نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرباحي عن أبيه قال: أوصى إليّ رجل، وأوصى ببدنة، فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلاً أوصى إليّ وأوصى ببدنة، فهل تجزئ عني بقرة؟ قال: نعم، ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت: من بني رباح، فقال: ومتى اقتنى بنو رباح البقر إلى الإبل؟ وهم صاحبكم، إنما البقر للأسد وعبد القيس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في الأضاحي، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن أبي ظبيان قال: سألت ابن عباس عن قوله: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة، ثم قل: بسم الله والله أكبر.
وأخرج الفريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله: {صَوَافَّ} قال: قياماً معقولة، وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو عبيدة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران قال: في قراءة ابن مسعود: {صوافن} يعني: قياماً.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {فَإِذَا وَجَبَتْ} قال: سقطت على جنبها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: نحرت.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: {القانع}: المتعفف {والمعتر}: السائل.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: القانع الذي يقنع بما آتيته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: القانع: الذي يقنع بما أوتي، والمعترّ: الذي يعترض.
وأخرج عنه أيضاً قال: القانع الذي يجلس في بيته.
وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي في سننه عنه، أنه سئل عن هذه الآية، فقال: أما القانع: فالقانع بما أرسلت إليه في بيته، والمعترّ: الذي يعتريك.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: القانع: الذي يسأل، والمعترّ: الذي يتعرض، ولا يسأل.
وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك.
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج نحوه.

1 | 2 | 3 | 4